الحضارة الغربية ونزعة التدمير الذاتي

لقد وَجدت أوروبّا -القارّة التي اختنقت حتّى النُخاع برماد الكراهية- نفسها تتصارع ليس فقط مع الدمار المادي الذي خلّفته الحرب العالميّة الثانية؛ بل وأيضاً مع شبح قدرتها المُضمرة على تدمير نفسها؛ فمعالم الحضارة الغربيّة التي نقشتها مُثُل التنوير والعقلنة والتقدُّم كانت مُختلطة بشكل لا يمحى بالندوب الغائرة التي حفرتها الحقبة النازيّة، ومن بين الركام والأطلال؛ ظهرت رواية يتردّد صداها عبر الأجيال، ليعود الصدى مُضاعفاً مع التحذيرات من التوازن الهش بين التقدم والنكوص، بين الحضارة والفناء، بين الأنموذج الفذ والفريد في نسج خيوط الارتقاء وتوليد نُسخة بالغة الروعة من الازدهار والمدنيّة، وبين الرغبة المكبوتة والصامتة في خياطة الأكفان والطرْق على مسامير التوابيت والإصرار عسير التفسير على تتبّع مسارات الهاوية وارتداء أشدِّ أشكال أقنعة الموت رُعباً وهمجيّة. يتعقّب هذا الكتاب -وبلا هوادة- هذه الحكاية المثيرة للقلق، ويتتبّع إرث ما بعد النازيّة في أوروبّا، ويواجه –بالأدلّة والأرقام والشهادات والقصص- النزعة المُخيفة المُترسّبة في أعماق الحضارة الغربيّة إلى التقهقر والتراجع والفناء، وميلها المَرَضي إلى التكوّر على نفسها بعُنف -مثل عقرب مُنتحر-، واستعدادها للدغ ذاتها بسموم الحروب والإبادة.